التقى رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، في 17 ديسمبر 2021، بالرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وذلك على هامش قمة الشراكة التركية – الأفريقية الثالثة، والتي استضافتها مدينة اسطنبول خلال الفترة بين 16 و18 من الشهر ذاته، حيث عكس هذا اللقاء العديد من الدلالات المهمة، خاصةً في ظل المتغيرات الراهنة التي تشهدها أديس أبابا.
سياق متشابك:
يأتي اللقاء الأخير الذي جمع آبي أحمد، بأردوغان في إطار جملة من المتغيرات التي شهدتها أديس أبابا خلال الفترة الأخيرة، فضلاً عن التطورات التي طرأت على المشهد التركي، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- انتصار أديس أبابا على متمردي تيجراي: شهدت الأسابيع الأخيرة، قبل لقاء آبي أحمد بأردوغان، تطورات ميدانية مهمة في الحرب الأهلية الإثيوبية، إذ اتجهت أديس أبابا لاستعادة السيطرة على بعض المدن من جبهة تحرير تيجراي، فضلاً عن إعلان الناطق الرسمي باسم جبهة تحرير شعب تيجراي، غيتاتشو رضا، في 20 ديسمبر، انسحاب قوات الجبهة من منطقتي أمهرة وعفر، والتراجع إلى إقليم تيجراي في ما وصفه بأنها خطوة للسماح بدخول "المساعدات الإنسانية"، ودفع عملية السلام، وذلك بعد أن كانت الجبهة والقوات المتحالفة معها على تخوم العاصمة أديس أبابا، وتهدد بإسقاطها.
2- توجيه انتقادات غربية حادة لإثيوبيا: جاءت زيارة آبي أحمد إلى تركيا في ظل تصاعد حدة الانتقادات الدولية ضد الحكومة الإثيوبية بشأن الحرب الراهنة ضد التيجراي. وتجسد أحد أبعاده في إعلان الأمم المتحدة، في 17 ديسمبر الجاري، عن تشكيل لجنة تحقيق دولية حول التجاوزات والممارسات المرتكبة في الحرب الراهنة في اثيوبيا، بناء على الطلب المقدم من الاتحاد الأوروبي.
ومن ناحية أخرى، أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، أن واشنطن تشعر بقلق بالغ إزاء التقارير التي تشير إلى قيام قوات من الأمهرة، المتحالفة مع حكومة أديس أبابا، باحتجاز جماعي لأبناء التيجراي، وطالبت الخارجية الأمريكية بضرورة التحقق في مدى صحة هذه التقارير ومحاسبة المسؤولين عنها.
3- مساعٍ تركية لتعزيز حضورها الأفريقي: ثمة تحركات مكثفة من قبل تركيا خلال الفترة الأخيرة تستهدف بها تعزيز نفوذها في القارة الأفريقية، من بوابة تعزيز صادرات الأسلحة إلى دول القارة، خاصة الطائرات المسيرة، وهو ما عكسته الزيارة الأخيرة التي قام بها أردوغان إلى أنجولا ونيجيريا في أكتوبر الماضي، فضلاً عن صفقات الطائرات المسيرة التي عقدتها تركيا خلال الأشهر الأخيرة مع عدة دول أفريقية.
وفي هذا الإطار، تبدي تركيا اهتماماً خاصاً بمنطقة القرن الأفريقي، وتسعى لتعزيز حضورها هناك، من خلال تعاونها مع إثيوبيا والصومال، وهو ما ينعكس بوضوح في صفقة الطائرات المسيرة التي أرسلتها أنقرة إلى مقديشو مطلع ديسمبر الجاري، فضلاً عن الصفقات المماثلة التي أرسلتها أنقرة للحكومة الإثيوبية لدعمها في مواجهة المتمردين قبل بضعة شهور.
4- تدهور الاقتصاد التركي: يشهد الاقتصاد التركي واحدة من أسوأ الأوضاع التي مر بها خلال السنوات الأخيرة، في ظل استمرار تدهور الليرة التركية بشكل مضطرد، والتي ترتبط بقدر كبير بالسياسة المالية للرئيس التركي. لذا عمدت أنقرة إلى تكثيف تحركاتها الأفريقية لتوسيع شراكاتها الاقتصادية وفتح أسواق جديدة لصناعاتها العسكرية، في محاولة لإيجاد منفذ لأزمتها الاقتصادية الحادة، فضلاً عن الاستفادة من المواد الخام الأفريقية.
دوافع متعددة:
وصف آبي أحمد اللقاء الذي جمعه بأردوغان، بأنه تاريخي، مشيراً إلى أن العلاقات بين أنقرة وأديس أبابا متجذرة وقائمة على أساس المشاركة البناءة. وفي هذا السياق يمكن عرض أهم دوافع هذا اللقاء في التالي:
1- تعزيز إثيوبيا علاقاتها بتركيا: تعد زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، إلى تركيا هي الزيارة الخارجية الأولى له منذ إعلانه عن قيادته العمليات العسكرية الراهنة ضد جبهة تيجراي من الخطوط الأمامية، في دلالة مهمة تعكس اتجاه العلاقات التركية – الإثيوبية نحو مزيد من التعاون المشترك على المستويات الاقتصادية والعسكرية.
2- محاولة الاستعداد لما بعد الحرب: جاء لقاء آبي أحمد بأردوغان عقب التحولات النوعية التي طرأت على المشهد العملياتي في الصراع الإثيوبي، خاصة بعد إعلان جبهة تيجراي في 20 ديسمبر الجاري انسحابها من إقليمي أمهرة وعفر، داعية الأمم المتحدة والمجتمع الدولي للضغط على الحكومة الإثيوبية من أجل وقف إطلاق النار وحظر الطيران الجوي فوق إقليم تيجراي، مع ضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى الإقليم.
وجاءت تحركات تيجراي مقترنة بدعم غربي واضح، وهو ما عبّر عنه المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، والذي أشار إلى تطلع واشنطن إلى فتح الباب أمام العملية الدبلوماسية في الأزمة الإثيوبية، ولذلك، فإن أديس أبابا تسعى للاستعداد إلى هذه المرحلة، والتي قد تشهد تجدد الضغوط الغربية عليها للجلوس على التفاوض مع المتمردين، وذلك عبر تعزيز علاقاتها الخارجية مع الدول التي لا تفرض عليها مثل هذه الضغوط، وبما يمكنها في النهاية من تجنب تقديم أي تنازلات للمتمردين، أو جعلها في حدها الأدنى.
3- مواصلة التعاون العسكري: تسعى أنقرة إلى توظيف الحرب الأهلية الإثيوبية لتعزيز صادراتها العسكرية. فقد ارتفع حجم صادرات الأسلحة والطيرات التركية إلى إثيوبيا من نحو 235 ألف دولار في يناير 2021 إلى حوالي 94.6 مليون دولار في نوفمبر 2021.
وفي هذا السياق، أشار تقرير صادر عن صحيفة "نيويورك تايمز" إلى الدور الحاسم الذي لعبته الطائرات المسيرة في قلب موازين الحرب الراهنة في إثيوبيا، والحيلولة دون سقوط نظام آبي أحمد، فقد أشار التقرير إلى أن حصول أديس أبابا على طائرات مسيرة تركية وإيرانية وصينية، كان أحد العوامل التي ساهمت في إنقاذ الحكومة الإثيوبية من السقوط أمام تقدم جبهة تيجراي.
وتعرضت الحكومة التركية إلى ضغوطات أمريكية فيما يتعلق بمبيعات الطائرات المسيرة إلى إثيوبيا، وأكد مسؤول غربي، أن أنقرة استجابت للمخاوف الأمريكية عبر إضافة بنود إنسانية باتفاقات البيع وطلبت تعهدات موقعة بشأن كيفية استخدام طائراتها المسيرة. وبالتالي يسعى آبي أحمد من خلال لقائه بأردوغان إلى استنئاف صفقات التسليح التركية لحكومته، بما في ذلك الطائرات المسيرة، والتأكد من عدم تأثرها سلباً بالضغوط الأمريكية، وهو ما يتضح في لقاء وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، بنظيره الإثيوبي، أبراهام بيلاي، على هامش زيارة الوفد الإثيوبي إلى تركيا.
4- تعزيز الصادرات التركية: تمثل إثيوبيا سوقاً كبيراً يمكن أن يستوعب الكثير من منتجات الصناعات التركية، كما تعد تركيا ثاني أكبر مستثمر في أديس أبابا بعد الصين. وتجدر الإشارة هنا إلى أن تجربة تركيا في الانخراط في الأزمات تشير إلى أن التدخل التركي العسكري لدعم أحد أطراف الأزمات الإقليمية، تستتبعه غالباً حزمة من المكاسب الاقتصادية التي تجنيها أنقرة جراء هذا الدعم العسكري، على غرار التدخل التركي في ليبيا.
وبالتالي لا يمكن استبعاد أن يفرز لقاء آبي أحمد وأردوغان التوصل إلى توافقات اقتصادية ربما تسهم في إنعاش الاقتصاد التركي نسبياً، خاصةً أن الزيارة التي قام بها آبي أحمد إلى تركيا في أغسطس الماضي، كانت قد شهدت توقيع أربع اتفاقيات، يرتبط أحدها بالبعد المالي والاقتصادي.
5- مناورة تركية ضد خصومها: تسعى تركيا من خلال تعزيز علاقاتها بإثيوبيا إلى امتلاك ورقة ضغط في مواجهة خصومها الإقليميين، خاصةً في ظل حالة الجمود التي باتت تهيمن على مسار التقارب التركي مع بعض القوى العربية. وبالتالي يبدو أن أنقرة باتت تعول على تقاربها مع الحكومة الإثيوبية لامتلاك أوراق ضغط ضد خصومها.
ومن ناحية أخرى، وفي ظل التنافس التركي – الروسي في عدة ملفات إقليمية، لا يمكن استبعاد وجود أهداف تركية تتضمن مساعيها للحيلولة دون تعزيز نفوذ موسكو العسكري على أديس أبابا، خاصةً في ظل الإعلان عن اتفاقية تعاون عسكري بين روسيا وإثيوبيا في يوليو الماضي، وإن كان لا يتوقع أن تتجه أديس أبابا للتخلي عن الدعم الروسي بسبب أهميته لها.
وفي الختام، على الرغم مما تحمله المتغيرات الأخيرة التي شهدها الصراع الداخلي في إثيوبيا من مؤشرات إيجابية، يمكن أن تفضي إلى إطلاق عملية حوار وطني شامل بمشاركة كافة الأطراف، وذلك من خلال ضغط المجتمع الدولي في هذا الاتجاه، بيد أن احتمالات فشل هذا الحوار، حال إطلاقه، تبقي قائمة بقوة. ومن ثم سوف يسعى كل طرف إلى تعزيز قدراته العسكرية وعلاقاتها الدبلوماسية تحسباً لاندلاع جولة جديدة من المواجهات العسكرية مرة أخرى، أو حتى من أجل ترسيخ حالة الجمود الراهن. وفي هذا السياق يمكن فهم اللقاء الأخير الذي جمع آبي أحمد بالرئيس التركي أروغان.